فصل: تفسير الآية رقم (109):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يستترون منهم حياءًا وخوفًا من ضررهم، وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على {الذين يَخْتَانُونَ} [النساء: 107] على الأظهر، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.
وقيل: هي في موضع الحال من {مِنْ} {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} أي ولا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه، وإنما فسر الاستخفاء منه تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه، وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشالكة {وَهُوَ مَعَهُمْ} على الوجه اللائق بذاته سبحانه، وقيل: المراد أنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك ما يؤاخذ عليه؛ والجملة في موضع الحال من ضمير يستخفون.
{إِذْ يُبَيّتُونَ} أي يدبرون ولما كان أكثر التدبير مما يبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به قبله، وقيل: متعلق بـ {يَسْتَخْفُونَ}.
{مَا لاَ يرضى مِنَ القول} من رمي البريء وشهادة الزور.
قال النيسابوري: وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولًا لا إشكال فيها عند القائلين بالكلام النفسي؛ وأما عند غيرهم فمجاز، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه سبحانه، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هاهنا فتذكر {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بعملهم أو بالذي يعملونه من الأعمال الظاهرة والخافية {مُحِيطًا} أي حفيظًا كما قال الحسن أو عالمًا لا يعزب عنه شيء ولا يفوت كما قال غيره وعلى القولين الإحاطة هنا مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {يستخفون من الناس} بيان لـ {يختانون}.
وجملة: {ولا يستخفون من الله} حال، وذلك هو محلّ الاستغراب من حالهم وكونهم يختانون أنفسهم.
والاستخفاء من الله مستعمل مجازا في الحياء، إذ لا يعتقد أحد يؤمن بالله أنّه يستطيع أن يستخفي من الله.
وجملة: {وهو معهم} حال من اسم الجلالة، والمعية هنا معية العلم والاطّلاع و{إذ يبيّتون} ظرف، والتبييت جعل الشيء في البيَات، أي الليل، مثل التصبيح، يقال: بيَّتهم العدوُّ وصبَّحهم العدوُّ وفي القرآن: {لنبيتَنَّه وأهلَه} [النمل: 49] أي لنأتينّهم ليلا فنقلتهم.
والمبيَّت هنا هو ما لا يُرضي من القول، أي دبّروه وزوّروه ليلا لقصد الإخفاء، كقول العرب: هذا أمر قُضي بليل، أو تُشُورّ فيه بليل، والمراد هنا تدبير مكيدتهم لرمي البُراء بتهمة السرقة. اهـ.

.قال القرطبي:

قال الضحاك: لما سرق الدّرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدّرع تحت التراب؛ فنزلت {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} يقول: لا يخفى مكان الدّرع على الله {وَهُوَ مَعَهُمْ} أي رقيب حفيظ عليهم.
وقيل: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يستتِرون، كما قال تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل} [الرعد: 10] أي مستتر.
وقيل: يستحيون من الناس، وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار.
ومعنى {وَهُوَ مَعَهُمْ} أي بالعلم والرّؤية والسمع، هذا قول أهل السنة.
وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة: هو بكل مكان، تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها، قالوا: لما قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ} ثبت أنه بكل مكان، لأنه قد أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم، فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعالٍ عن ذلك ألا ترى مناظرة بِشْر في قول الله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] حين قال: هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه: هو في قَلَنْسُوَتِكَ وفي حَشْوك وفي جوف حِمارك.
تعالى الله عما يقولون! حكى ذلك وَكيعٌ رضي الله عنه.
ومعنى {يُبَيِّتُونَ} يقولون.
قاله الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
{مَا لاَ يرضى} أي ما لا يرضاه الله لأهل طاعته.
{مِنَ القول} أي من الرأي والاعتقاد، كقولك: مذهب مالك والشافعي.
وقيل: «القول» بمعنى المقول؛ لأن نفس القول لا يبيّت. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وكان الله بما يعملون محيطًا} كناية عن المبالغة في العلم.
ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول: جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطًا، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم.
وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ، إذ كان تعالى محيطًا بجميع الأقوال والأعمال، فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} الغالب على قلوبهم رؤية الخلق ولا يشعرون أنَّ الحق مُطَّلِعٌ على قلوبهم أولئك الذين وَسَمَ الله قلوبهم بوسم الفرقة. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}
إنهم يطلبون البراءة أمام الناس في أن «طعمة» لم يفعل السرقة، ولكن هل يملك الناس ما يملكه الله عنهم؟. إنه سبحانه أحق بذلك من الناس. فإذا كنتم تريدون التعمية في قضاء الأرض فلن تعموا على قضاء السماء. وهذه القضية يجب أن تحكم حركة المؤمن، فإذا ما فكر إنسان منسوب إلى الإسلام أن يفعل شيئًا يغضب الله فعليه أن يفكر: أنا لو فعلت ذلك لفضحت نفسي أو فضحت ولدي أو فضحت أسرتي أو فضحت المسلمين، وعلى الإنسان المسلم ألا يخشى الناس إن فعل أخ له شيئًا يشين المسلمين، بل عليه أن يأخذ على يديه ويردُه عن فعله. ونقول لمن يستتر عن الناس: أنت استخفيت من الناس، ولم تستخف من الله؛ لذلك فأنت غير مأمون على ولاية.
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} و«يبيت» أي أنه يفعل أمره في الليل؛ لأن الناس كانت تلجأ إلى بيوتهم في الليل، ومعنى «يبيت» أن يصنع مكيدة في البيت ليلا، وكل تدبير بخفاء اسمه «تبييت» حتى ولو كان في وضح النهار، ولا يبيت إنسان في خفاء إلا رغبة منه في أن ينفض عنه عيون الرائين. فنقول له: أنت تنفض العيون التي مثلك، لكن العيون الأزلية وهي عيون الحق فلن تقدر عليها.
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108]
حين نسمع كلمة «محيط» فلنعلم أن الإحاطة هي تطويق المحيط للمحاط، بحيث لا يستطيع أن يفلت منه علمًا بحاله التي هو عليها ولا قدرة على أن يفلت مِنْه مآلا وعاقبة، فهو سبحانه محيط علمًا لأنه هو الذي لا تخفى عليه خافية، ومحيط قدرة فلا يستطيع أن يفلت أحد منه إلى الخارج. وسبحانه محيط علمًا بكل جزئيات الكون وتفاصيله وهو القادر فوق كل شيء. فإذا ما سمعنا كلمة «محيط» فمعناها أن الحق سبحانه وتعالى يحيط ما يحيط به علمًا بكل جزئياته فلا تستطيع جزئيه أن تهرب من علم الحق. وسبحانه محيط بكل شيء قدرة فلا يستطيع أن يفلت من مآله شيء من الجزاء الحق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{يَسْتَخفُون}: وجهان: أظهرُهُمَا: أنها مَستأنفة لمجرد الإخْبَار بأنهم يَطْلُبون التستُّر من الله تعالى بجهلهم.
والثاني: أنها في مَحَلِّ نَصبٍ صفة لـ {مَنْ} في قوله: {لا يحبُّ مَنْ كان خَوانًا} [النساء: 107] وجُمِع الضَّمِير اعتبارًا بمعناها إن جعلت {مَنْ} نكرةً موصوفة، أو في مَحَلِّ نصب على الحَالِ مِنْ {مَنْ} إن جَعَلْتَها مَوصُولة، وجُمِعَ الضميرُ باعتبار مَعْنَاها أيضًا.
والاستخفاء الاستتار، يقال استَخْفَيْت من فُلان: أي: توارَيْتُ منه واسْتَتْرتُ؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل} [الرعد: 10] أي: مُسْتَتر، ومعنى الآيَة: يَسْتَتِرُون من النَّاسِ، ولا يَسْتَتِرُونَ من اللَّه.
قال ابن عبَّاسٍ يَسْتَحْيُون من النَّاس، ولا يَسْتَحيون من اللَّه.
قال الواحِدِي: هذا مَعْنًى وليس بِتَفْسير؛ وذلك أنَّ الاستحْيَاء من النَّاس هو نفس الاسْتِخْفَاء، فَلَيْس الأمْر كذلك.
قوله: {وَهُو مَعَهُم} جملة حالية إمَّا من اللَّه تعالى، أو من المُسْتَخْفِينَ، وقوله: {معهم} أي: بالعِلْم، والقُدْرَة، والرُؤيَة، وكَفَى هذا زاجرًا للإنْسَان، و{إذْ} منصوبٌ بالعامل- في الظَّرْفِ- الوَاقِعِ خبرًا، وهو {مَعَهُم} ومعنى: يُبَيِّتُون: يَتَقَوَّلون، ويُؤلِّفُون، ويضمرون في أذْهَانِهِم، والتبييتُ: تدبير الفِعْل لَيْلًا اهـ.

.تفسير الآية رقم (109):

قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وبخهم سبحانه وتعالى على جهلهم، حذر من مناصرتهم فقال مبنيًا أنها لا تجديهم شيئًا، مخوفًا لهم جدًا بالمواجهة بمثل هذا التنبيه والخطاب ثم الإشارة بعد: {هاأنتم هؤلاء} وزاد في الترهيب للتعيين بما هو من الجدل الذي هو أشد الخصومة- من جدل الحبل الذي هو شدة فتله- وإظهاره في صيغة المفاعلة، فقال مبينًا لأن المراد من الجملة السابقة التهديد: {جادلتم عنهم} في هذه الواقعة أو غيرها {في الحياة الدنيا} أي بما جعل لكم من الأسباب.
ولما حذرهم وبخهم على قلة فطنتهم وزيادة في التحذير بأن مجادلتهم هذه سبب لوقوع الحكومة بين يديه سبحانه وتعالى فقال: {فمن يجادل الله} أي الذي له الجلال كله {عنهم} أي حين تنقطع الأسباب {يوم القيامة} ولا يفترق الحال في هذا بين أن تكون {ها} من {ها أنتم} للتنبيه أو بدلًا عن همزة استفهام- على ما تقدم، فإن معنى الإنكار هنا واضح على كلا الأمرين.
ولما كان من أعظم المحاسن كف الإنسان عما لا علم له به، عطف على الجملة من أولها من غير تقييد بيوم القيامة منبهًا على قبح المجادلة عنهم بقصور علم الخلائق قوله: {أم من يكون} أي فيما يأتي من الزمان {عليهم وكيلًا} أي يعلم منهم ما يعلم الله سبحانه وتعالى بأن يحصي أعمالهم فلا يغيب عنه منها شيء ليجادل الله عنهم، فيثبت لهم ما فارقوه، وينفي عنهم ما لم يلابسوه ويرعاهم ويحفظهم مما يأتيهم به القدر من الضرر والكدر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاء جادلتم عَنْهُمْ في الحياة الدنيا فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} {ها} للتنبيه في {ها أنتم} و{هَؤُلاء} وهما مبتدأ وخبر {جادلتم} جملة مبينة لوقوع {أُوْلاء} خبرًا، كما تقول لبعض الأسخياء: أنت حاتم تجود بما لك وتؤثر على نفسك، ويجوز أن يكون {أولاء} اسمًا موصولًا بمعنى الذي و{جادلتم} صلة، وأما الجدال فهو في اللغة عبارة عن شدة المخاصمة، وجدل الحبل شدة فتلة، ورجل مجدول كأنه فتل، والأجدل الصقر لأنه من أشد الطيور قوة.
هذا قول الزجاج.
وقال غيره: سميت المخاصمة جدالًا لأن كل واحد من الخصمين يريد ميل صاحبه عما هو عليه وصرفه عن رأيه.
إذا عرفت هذا فنقول: هذا خطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب أنهم كانوا في الظاهر من المسلمين، والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن الذين يخاصمون عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه.
وقرأ عبد الله بن مسعود: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه، يعني عن طعمة، وقوله: {فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ} استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع.
ثم قال تعالى: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} فقوله: {أَمْ مَّن يَكُونُ} عطف على الاستفهام السابق، والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر في الحفظ والحماية، والمعنى: من الذي يكون محافظًا ومحاميًا لهم من عذاب الله؟. اهـ.